لا شك أن الحديث عن خصخصة التعليم الأساسي سيلقى وابلًا من اتهامات العمالة والخوانة والسادية الاجتماعية ولربما بعض من السباب، ومع ذلك لا غضاضة في طرح منضبط قد يحرك المياة الراكدة وتنكشف به بعض من الأبعاد أضعها نصب عين القارئ.
فضعوا التخوين والسباب جانبا وأنصتوا يرحمكم الله.
في بادئ الأمر دعونا نستعرض بعضا من الإحصائيات الهامة والتي صدرت رسميا عن وزارة التربية والتعليم والتعليم الفني أواخر عام 2019. وفقا للأرقام الرسمية التي أعلنتها الوزارة تجاوز عدد المدارس الحكومية سبعة وأربعين ألف مدرسة موزعة على قطاعات التعليم الأساسي ، كما بلغ عدد الطلاب والطالبات المقيدين بهذه المدارس عشرين مليونًا وأكثر. وفي المقابل تجاوز عدد المدارس الخاصة الثمانية آلاف مدرسة على مستوى الجمهورية بإجمالي ما يقرب من سبعين ألف فصل دراسي وعدد طلاب تجاوز المليونين.
ولكن ماذا تعني لنا هذه الأرقام وما علاقتها بالحديث عن خصخصة التعليم ما قبل الجامعي؟
دعونا نتناول معياريين هما ببساطة التكلفة مقابل الجودة.
فمما لا شك فيه أن وزارة التربية والتعليم والتعليم الفني باعتبارها وزارة خدمية في المقام الأول تشكل عبئا ليس باليسير على موازنة الدولة, وإذا ما ترجمنا هذه الأعباء إلى تكاليف, فمن المفترض أن تؤدي بديهيا إلى الجودة- ولكن حدث ولا حرج! مباني تعليمية مهلهلة وبنية تحتية في طريقها للهلاك وأزمة ثقة بين الوزارة وكل أطراف العملية التعليمية بما فيهم الطلاب وأولياء أمورهم.
لكنني أريدكم معي أن تنظروا إلى قضية مجانية التعليم من غير منظورها التقليدي, ولعل هذا يستدعي سؤالا حتميا – هل التعليم في مصر حقا مجاني؟
هل حساب التكاليف هو ما يدفعه أو لا يدفعه ولي الأمر للمدرسة الحكومية أم هو مجمل ما يتم صرفه على الطالب خلال العام الدراسي من أعباء؟ ولو أجرينا حسبة بسيطة على أي طالب مسجل في مدرسة حكومية سنجد أن مجمل مصروفاته السنوية من رسوم مدرسية وزي مدرسي ومواصلات وكتب خارجية ودروس خصوصية يتساوى بل قد يتجاوز ما يتم دفعه في مدرسة خاصة تقدم خدمة تعليمية متميزة لا يحتاج معها الطالب إلى كتب خارجية أو دروس خصوصية.
بذلك نجد أن المعادلة صفرية يا سادة وأن التعليم الذي نرفع له خداعا شعار المجانية ليس بمجاني على الإطلاق وأن لافتات حقوق الدهماء والضعفاء والفقراء ما هي إلا اتجار بمشاعرهم وأن الواقع يخالف ذلك تماما.
إذا ما هو ذلك الطرح المنضبط وكيف يمكن خصخصة التعليم ما قبل الجامعي دون إضافة أية أعباء أخرى على كاهل ولي الأمر مقارنة بما يتكبده حقيقة في تعليم أبنائه لا ما يدفعه شكلا تحت دعاوى مجانية التعليم الزائفة؟ الطرح هو إسناد تشغيل نسبة لا تتجاوز ثلاثة أرباع المدارس الحكومية إلى شركات القطاع الخاص العاملة في إدارة وتشغيل المشروعات التعليمية.
أقول إسناد تشغيل وليس بيع ودعونا نزيد الطرح وضوحا. تكلفة تعليم الطالب المصري في المدارس الحكومية على موازنة الدولة تتراوح بين خمسة آلاف إلى سبعة آلاف جنيه سنويا تختلف بإختلاف المرحلة. فلو ضربنا مثلا بمدرسة حكومية بها ألف طالب, نجد أن تشغيل هذه المدرسة يكلف الدولة متوسط ستة ملايين جنيه سنويا يخصص نصفها تقريبا لرواتب المعلمين والهيئة الإدارية, والمخرجات للأسف لا ترقو لحجم هذا الإنفاق – أي أننا بصدد إنفاق بلا جودة والأسباب كلكم تعلموها جيدا وأهمها ضعف الإدارة والترهل الوظيفي والبيروقراطية المقيتة وتحول المعلم في ظل هذه الأجواء إلى مجرد موظف حكومي مما جعله بعيد كل البعد عن الإبداع وتطوير الذات لإحساسة بالأمان الوظيفي فلا حماسة تشفع ولا منافسة تدفع. وفي المقابل نجد قرين المعلم الحكومي في مدارس القطاع الخاص يقضي وقته بين متابعة وتواصل مع طلاب وأولياء امور لحل ما يطرأ من مشكلات وتذليل ما يلزم من معوقات, وتدريب وتوجيه ومراقبة أداء وتقييم فصلي وسنوي مما يجعل التطور المهني ملازما له وعدم الإحساس السلبي بالأمان الوظيفي دافعا له لتحقيق الإجادة والتميز.
إذا لو اتفقنا على أن مستوى الخدمة التعليمية في مدارس القطاع الخاص يفوق وبكثر مثيلاتها في القطاع الحكومي- فلما لا يتم تبني ما أطرحه من إسناد تشغيل نسبة من المدارس الحكومية إلى شركات القطاع الخاص العاملة في تشغيل وإدارة المدارس؟ ولكن ما هي الآلية وكيف سيستفيد منها جميع الأطراف؟ إليكم الخطوات كنموذجا لتدفق الإجراءات لتحقيق هذا الطرح.
أولا: تسلم وزارة التربية والتعليم المدرسة الحكوميه إلى شركة قطاع خاص عاملة في مجال إدارة وتشغيل المدارس على أن يتم ذلك وفق إجراءات طرح تنافسية تخضع لأعمال فحص وتدقيق وإختيار من لجان مختصة.
ثانيا: عند إرساء عملية الطرح تدفع الحكومة للشركة الخاصة تكلفة تشغيل الطالب في العام الدراسي مضروبا في عدد طلاب المدرسة بعد حجز قيمة الرواتب السنوية للمعلمين والهيئة الإدراية – أي تستلم الشركة مبلغ قرابة الثلاثة ملايين ونصف جنيها سنويا كمثال لمدرسة بها الف طالب.
ثالثا: يقوم ولي الأمر بسداد مبلغ موازي لتكلفة الطالب للشركة الخاصة المشغلة للمدرسة على ثلاثة أقساط بواقع 2333 جنيها كل ثلاثة شهور مثلا. مع العلم أن ولي الأمر فعليا يدفع ما يجاوز هذا المبلغ سنويا في الدروس الخصوصية لتعويض الفقد الكبير في عملية التعليم في المدرسة الحكومية. هذا يعني أن إجمالي المبلغ المخصص لتغطية تكاليف الطالب الواحد أصبح أربعة عشر ألف جنيه سنويا تحتفظ الوزارة منه بقيمة الرواتب والباقي يكون في عهدة الشركة المشغلة تحت إشراف مراقب مالي وقانوني من الوزارة.
رابعا: تقوم الشركة المشغلة بحجز جزء من هذا المبلغ كأرباح سنوية وفقا لنسبة محدده كأجر مقابل التشغيل تقرها وزارة التربية والتعليم ويتم تضمينها في العقد التشغيلي فيما بين الوزارة والشركة.
خامسا: يتم استغلال المبلغ المتبقي وهو نصف إجمالي تكلفة الطالب تقريبا أو قد يزيد على تطوير العملية التعليمية وتحسين البيئة المدرسية وإدراج خطط فاعلة للأنشطة المنهجية واللامنهجية وتنفيذ برامج دعم وتدريب مهني لرفع كفاءة المعلمين والهيئة الإدارية وتصميم برامج قياس مؤشرات أداء ترتبط بحافز مادي للمعلمين قد يوازي راتبهم الحكومي مما يعني إحداث نقلة نوعية في مستوى دخولهم.
وفي مقابل تحقيق كل ذلك ستكون جميع المدارس الحكومية على قدم وساق مع مدارس القطاع الخاص وسيظهر ذلك جليا في تجويد مخرجات عملية التعليم والتعلم, ولن يلجأ ولي الأمر لقنوات دراسية موازية كان ينفق فيها أكثر مما سيقوم بدفعه لشركة التشغيل على أقساط بل والأكثر من ذلك هو عودة الحياة الطبيعية للطالب وبدلا من خروجه من المدرسة يوميا للهث وراء دروس خصوصية يضيع فيها يومه بالكامل, سوف يعود إلى منزله محملا بما اكتسبه من معلومات ومهارات ليؤدي فروضه المدرسية وينعم بالتعايش مع أسرته أو ممارسة رياضته المفضلة. وللحديث بقية!